السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه كلمة فائقة وعبارة عميقة من الإمام المربِّي باعث النهضتين الأدبية والعلمية في الشمال الافريقي العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى حين زار بعض القرى التي خيَّم فيها الجهل وضرب بِجِرانه وجثمت على صدرها الأمية، فشكى إليه بعض مثقفيها حال الأمة بها وما آل إليه أمرها وقال له كلمة تدل على أنَّ اليأس قد سكن قلبه وسرى في أوصاله: "يا شيخ لا حياة لمن تنادي", أي إن الناس قد أصبحوا موتى لا يستجيبون لدعوة أحد ولا ينفع فيهم وعظ ولا إرشاد، وهل ينفع تحريك جسم هامد أو يجدي ضرب في حديد بارد؟ إن كلمات الشيوخ ووعظهم لا يعدو أن يكون صرخة في واد أو نفخة في رماد على حدِّ قول الأول:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ---ولكن لا حياة لمن تنادي
ونار لو نفخت بها أضاءت--- ولكن أنت تنفخ في رماد
فبادره الإمام ابن باديس مصحِّحا ومرشدا وباعثا الأمل في نفوس السامعين فقال: "لا تقل"لا حياة لمن تنادي" ولكن قل:"لا منادي ينادي" فأكثروا إذن من المناداة إن أردتم أن يستجاب لكم ولا تخافوا من الراقدين ولا سيما إذا طال رقادهم كما هي الحالة عندنا" اهـ
إنها كلمة صادرة من نفس مليئة ثقة بربها يشع منها الأمل والتفاؤل، والبعد عن اليأس والتخاذل، والشيء من معدنه لا يستغرب فصاحبها راسخ الإيمان قويُّ العزيمة عميق الفكرة بعيد النظر واسع الأفق، قرأ أمته وفهمها كما يقرأ الكتاب ويفهم، ودرسها كما تدرس الحقائق العلمية فعرف مكمن الداء وسر الأدواء ، واتضحت له الرؤية واستقام له الطريق فسار على هدى من ربه مستضيئا بنور العلم وحسن القصد ورباطة الجأش وقوة التوكل ما ضعفت له عزيمة ولا لانت له قناة, ولا فُلَّت له صفاة، لسان حاله ما قاله الأول عما يصيبه من حوادث وبلايا:
فما ليَّنت منا قناةً صليـبةً ولا--- ذلَّلتـنا للذي ليـس يجمُـلُ
ولكن رحلناها نفوسا كريمةً ---تُحمَّل ما لا يستطـاع فتحمـلُ
وقَينا بحسن الصبر منا نفوسَنا--- فصحَّت لنا الأعراضُ والناسُ هزَّل
هناك فرق عظيم وبون شاسع بين النائم والميت، فهذه الأمة لم تمت ولن تموت ما تمسكت بالإسلام وحافظت على لسانها العربي وأخوتها الحقة، ولكنها نامت مدة من الزمان لا تلبث أن تستيقظ إن وجد فيها من يوقظها وينادي في أذنها أن استيقظي لطلب المعالي وتسنُّم ذرى الأمجاد.
إنها أمة تعيش في ظلام دامس وليل بهيم، ولكن ما دام فيها رمق من حياة فهو ليل يرتجى بروز فجره وبزوغ شمسه إذا أخذت بأسباب الحياة ومقومات النجاة ونفضت عن كاهلها غبار الجهل والتخاذل وليست هي أمةً ميتةً ليلُها كليل الضرير صبحه غير منتظر.
لقد أدرك ابن باديس أن اليأس في وقت الشدة وخناق البلاء قاتل للهمم وناقض للعزائم ومثبط للرجال وأنه مزلق خطير من مزالق الشيطان إذ الواجب انشراح الصدر بالتفاؤل واستنهاض الهمم وزرع البشرى في النفوس الضعيفة الخائفة، ونشر الأمل في زمان القنوط لتحويل الضيق إلى سعة والمنحة إلى محنة والألم إلى أمل، ولهذا كان يقول:
واهزُزْ نُفُوسَ الجامِدِين فرُبَمَا حي الخشب
وهذا أسوتنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه الصحابة رضي الله عنهم ما أصابهم من المشركين من شدة قال لهم: (والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) (رواه البخاري)
فاليأس ليس مطلوبا شرعا ولا مقصودا أصلا بل هو إطفاء لجذوة التفاؤل وإذكاء لشعلة التشاؤم وسوءِ الظن، ولا يجني منه صاحبه إلا ضعف العبادة والأمراض النفسية والقعود عن العمل النافع.
فيا أُخَيّ لا تسلم قيادك لليأس ولا تلق بنفسك في أحضان القنوط، فالشدائد بتراء لا تدوم وإن طالت، وللبلايا أوقات ثم تنصرم.
وكل الحادثات وإن تناهت فمقرون بها الفرج القريب
رحمة الله على الإمام ابن باديس فقد كان خير منادٍ في أمته فاستيقظت بعد رقاد وانتبهت بعد سهاد فما ذهبت كلماته سدى ولا جهوده ضياعا وتلك هي آثار الإخلاص في أعمال الرجال.
منقول من سحاب الخير